أصبحت هناك نغمة سائدة لدى عدد غير قليل من الناس أنه لا يوجد أمل، أو بالعامية المصرية "مفيش فايدة" معبرين عن حالة السخط والإحباط من أن يحدث أى تغيير ايجابي أو اصلاحي سواء فى مصر أو البلاد العربية والإسلامية جميعها. وينقسم هولاء عادة إلى ثلاث شرائح فمنهم من حاول كثيرًا أن يصلح ولكنه فشل لسبب أو لآخر ولم ير أى ثمار لجهده، ومنهم من لم يفعل أى شىء ولكنه يردد نغمة "أنه لا يوجد أمل" حتى يرضي ضميره بأنه لا فائدة من العمل طالما لا يوجد أمل، أما ثالث هذه الشرائح فهم أناس يرغبون فى الكمال ويرون أي عمل ايجابي شىء تافه وملىء بالأخطاء، لذلك فهم دائما ما يتحدثون عن السقطات غير مدركين لمميزات هذا العمل وما أحدثه من تغيير فعلي حتى ولو كان طفيفًا، فهل كل هولاء على صواب؟
إن تعاليم الإسلام تحثنا على عدم اليأس وأن نعمل حتى وإن كنا نرى أنه لا يوجد أي مردود لعملنا، وهل هناك أكثر من أن يخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فاستطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها"(1) ؟ العالم يفنى من حولنا وبالتأكيد لن يستفيد أحد من هذه الفسيلة التي نغرسها ولكن لابد أن نتم عملنا الذي شرعنا فيه، ولا أولوية مقدمة على هذا حتى لركعتين نقابل بهم المولى ونحن ليس فقط فى آخر لحظات حياتنا بل في آخر لحظات الكون بأكمله، وهذا لأننا لا نعمل من أجل أنفسنا أو من أجل أولادنا ولا حتى من أجل أوطاننا التي لن تستفيد من هذه الفسيلة المغروسة وقت قيام الساعة. إننا نعمل باختصار من أجل المولى عز وجل، على الأقل لنعتذر له عند الحساب بأننا حاولنا حتى آخر لحظة أن نعمر الأرض. وبهذا لا يجوز اتخاذ عدم وجود أمل ذريعة لعدم الإصلاح أو الكف عن الإصلاح.. ولكن هل فعلًا لا يوجد أمل؟
المسلم يعلم يقينًا أنه لن تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود حتى ينطق الشجر بأن هناك يهودي وراءه(2). ويعلم الله وحده إذا كانت هذه الحرب المقبلة بين المسلمين واليهود أم أن هناك حروب ستحدث قبلها. ولكن فى كلتا الحالتين فإن المسلمين الذين سينطق الشجر من أجلهم لن يكونوا قطعًا مثل مسلمي اليوم وحكامهم بالتأكيد لن يكونوا مثل من يحكومون البلاد العربية والإسلامية الآن. فقد كانت سنة الله دائمًا وأبدًا (إن تنصروا الله ينصركم) فهل لنا أن نتخيل كيف سينصر المسلمون الله فى هذا الوقت، حتى تكون نصرة الله لهم بنطق الشجر؟ إن الأمل موجود يقينًا ولكن ربما لن نراه في هذا الجيل أو فى الجيل الذى سيليه أوالذى يلي الذى يليه ولكنه سيأتي يومًا. إذًا فما دورنا؟ وكيف ستحدث هذه النهضة على يد أولادنا أو أحفادنا؟
يتوقع الكثيرون أنه لكى تحدث نهضة شاملة فلابد من تغيير القائد ليأتي قائد آخر بعصا موسى السحرية ليقيم العدل ويرفع الظلم وتصبح بلادنا ذات شأن وسلطان. وينسى هولاء أن سيدنا موسى نفسه الذى امتلك هذا العصا احتاج إلى أربعين عامًا يتيه فيها بنو إسرائيل حتى تتم تربية الجيل الذى قاده طالوت لفتح القدس ، هذا الجيل الذى رباه يوشع بن نون الفتى الذي كان مع سيدنا موسى فى لقائه بالخضر. هذه سنة الحياة التى تجعل أي تغيير فجائى بنسبة 180 درجة كارثة حقيقة. وهذا ما حدث فى مصر فى ثورة 23 يوليو التى نتفق مع كثير من مبادئها ولكن لأن تنفيذ هذه المبادىء لم يأت عن دراسة متأنية وبطريقة تدريجية كانت النتيجة "لخبطة" ما زال الشعب المصرى يعانى منها إلي الآن. إن وجود قائد عادل وذى رؤية وبصرية هو شىء أساسي لحدوث النهضة ولكنه لا يُشترط أن يكون البداية.
إن أشد اللحظات ظلامًا تلك التي تسبق الفجر. ولكن الفجر نفسه يحتاج لوقت لكى تَولد منه شمسًا مشرقة. وإذا نظرنا للتاريخ نجد أن الله عز وجل يرسل الرسل فى اللحظات التي يشتد فيها الكفر والظلم والطغيان ليكونوا الفجر ولكن تستمر الرسالة أعوامًا طويلة – يكذب فيها من يكذب ويؤمن فيها من يؤمن- حتى يتم إهلاك الكافرين بعقاب إلهي أو تتم تربية القادة الذين يأتون بالشمس المشرقة. والأخير هو ما حدث فى الرسالة المحمدية حيث استمرت الرسالة ثلاثة عشر عامًا فى مكة كان منها ثلاث سنوات حُوصر فيها المسلمون فى شعب بنى طالب. وفى رأيى إن هذه الثلاث سنوات كانت أهم فترة إعداد في حياة الصحابة ليَخرجوا الدنيا من قلوبهم إخراجًا وليكن هولاء الصحابة ومن يربونهم حاملين للرسالة في كافة أقطار الأرض جهادًا أو دعوةً. ربما لم يكن بعضهم على قيد الحياة عندما فُتحت بلاد كسرى وفارس ومصر وبيت المقدس. ولكن لكلٍ أجره لأنه ساهم فى زرع الفكرة حتى وإن لم يكن يتصور أن كل هذا النصر والتمكين سيحدث يومًا ما. تخيلوا معي آل ياسر والسيدة خديجة وكل من مات من الصحابة فى مكة بدون أن يرى فتح مكة أو حتى الدولة الإسلامية فى المدينة، كل هولاء لهم نصيبهم من الثواب ربما أكثر ممن جاء بعدهم وقاتلوا وحاربوا فعليًا وهو ما عبرت عنه الآية الكريمة ﴿لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاً وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾(3). إذًا فمن ينصر الله الآن ومن يأتي بالفجر الآن فى أشد الظلمات هو من سيحصد الثواب الأكبر حتى وإن لم ير ثمار تعبه رأى العين. هل كان الرسول صلى الله عليه وسلم موجودًا عند فتح بيت المقدس جسديًا؟ لا، ولكنه كان حيًا في نفوس الصحابة وهذا ما جعلهم يبكون عندما نطق بلال بن رباح باسمه فى الأذان لأنه المعلم الأول الذى ربى كل هولاء. وهذا ما دفع صلاح الدين أن يأخذ منبر أستاذه نور الدين محمود الذى توفاه الله قبل فتح بيت المقدس اعترافًا بفضل من علمه وغرس فيه الفكرة.
إذًا فلكي نصل للجيل الذي سينطق الشجر من أجله، لابد أن تكون البداية من عندنا من هنا، وقد حدثت البداية بالفعل والشواهد عدة. ولنأخذ مصر كمثال: منذ أقل من خمسة عشر عامًا فقط ظهرت عدة نقط مضيئة صغيرة جدًا فى المجتمع المصري. هذا الوقت الذي تزامن فيه بداية جيل الدعاة الجدد متمثلًا في "عمرو خالد" وقتها مع بداية أول جمعية خيرية قائمة بالكامل على جهود المتطوعين من الشباب وهي جمعية "رسالة" مع بداية محاضرات "زدني" للتنمية البشرية. وخلال هذه الأعوام تكاثرت النقط المضيئة من ساقية الصاوى إلي مراكز التنمية البشرية إلى مئات الجمعيات الخيرية إلي جيل جديد من الأدباء والشعراء والمطربين يتكلم عن الإصلاح والنهضة إلى الحركات السياسية مثل "كفاية" و"شايفنكم" و"أطباء بلا حقوق" إلي محاولات لعمل نهضة علمية متمثلة في جامعة النيل للتكنولوجيا وإعطاء منح كاملة للمتفوقين دراسيًا فى الثانوية العامة في الجامعات الأجنبية. كل هذه النقط المضيئة نواتها الجيل الذى يقترب الآن من الثلاثين عامًا ولكن من غرس فكرتها هو الجيل الذي يقترب الآن من منتصف الأربعينات. وهذا لا ينفي وجود الكثير من الأخطاء – التى يحلو للمتشائمون التركيز عليها- قطعًا هناك حاجة لإعادة تقويم ومراجعة ولكن هذا لا يعني أن هذه النقط المضيئة لم تحدث تغييرًا ايجابيًا لا يُستهان به، كما أنها فرضت العديد من الثقافات الجديدة على المجتمع المصرى حتى أصبح كورس التنمية البشرية كورس أساسي يأخذه خريج الجامعات المصرية لتنمية ذاته كما يأخذ كورسات كمبيوتر ولغات أجنبية.
إن الأمل يكمن فى هذه النقط المضيئة أو الثورات الجزئية كما جاء فى مقال سابق على الجزيرة توك (4). ولكي تبدأ أي نقطة مضئية لا تحتاج عادة لأكثر من شخص واحد يزرع الفكرة كما حدث في النقاط المضيئة الموجودة حاليًا التى لا يتجاوز عدد من بدأوها مجتمعة مائة شخص على الأكثر، غرسوا الفكرة داخل شباب لا يتجاوز عددهم الألف، وفى خلال أقل من خمسة عشر عامُا أصبحت هذه النقط المضيئة تضم مئات الآلآف. إن ما نحتاجه حاليًا هو المزيد والمزيد من النقط المضيئة في كافة البلاد العربية والإسلامية في شتى مجالات الحياة لتضم هذه النقط مجتمعة ملايين الأفراد الجديين الذين يعملون من أجل الله قبل أى شىء آخر، وبمرور الوقت ستلتحم هذه النقاط المضيئة سويًا حتى تحدث نهضة إسلامية شاملة ويأتي الجيل الذى ينصر الله حق نصرة، فيمكنه الله في الأرض.
إهداء: إلى إحدى النقاط المضيئة، حمزة نمرة الذى أوحى لي بهذه المقالة من خلال أغنيته الرائعة "يا طير" (5.
المصادر:
1- الراوي: أنس بن مالك المحدث: الألباني - المصدر: صحيح الجامع - الصفحة أو الرقم: 1424
خلاصة حكم المحدث: صحيح.
2- نص الحديث "لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود ، حتى يقول الحجر وراءه اليهودي : يا مسلم ، هذا يهودي ورائي فاقتله" الراوي: أبو هريرة المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 2926
خلاصة حكم المحدث: صحيح.
3- سورة الحديد: من الآية 10
دينا سعيد 29 -12 - 2010
تم نشره على الجزيرة توك
http://aljazeeratalk.net/node/7000