دخلت (سما) إلى حجرة الطبيب النفسى وقالت له أن صديقتى حكت لى أن حضرتك شخصت حالتها بأن عندها
borderline personality disorder
بسبب ضرب والدها وقسوته عليهم
وأنا أيضًا كان والدى يضربنى واعتقد أن عندى نفس المرض
الطبيب: لا يشترط أن كل من يضربه والده يصاب بهذا المرض... ربما كانت عنده مشاكل آخر
أو ليست عنده مشاكل على الأطلاق....ما مشكلتك تحديدًا؟
تجاهلت سما السؤال وقالت:
لقد أحضرت مفكرة ﻷكتب فيها كما قلت حضرتك لصديقتى ولكن أجدنى لا استطيع أن أكتب أى شىء
الطبيب: هذا شىء متوقع فعقلك يحاول دفن الذكريات القديمة كلما كانت أليمة ..سأحاول أن أساعدك بنقطة بداية...ما رأيك أن تكتبى عن المرات التى شعرتى فيها بالألم الشديد أو الإحباط سواء فى طفولتك أو مراهقتك أو حتى الآن...اكتبى عن كل مرة..ماذا حدث؟ كيف شعرت بالتحديد؟ وماذا فعلتى لتسيطرى على الألم الذى تشعرين به؟
حدقت "سما" فيه للحظات ثم سكتت برهة وهى تتشاغل بالنظر إلى الأشياء الموضوعة على المكتب وفجأة قالت:
حضرتك نبهتنى لنقطة مهمة وهى إنى أحيانًا كثيرة استغرب نفسى فى ساعات الغضب ..أجدنى أتصرف كوالدى فاتعصب وأسب وربما أضرب أولادى...أعتقد أنى لو رأيت وجهى فى المرأة لشاهدت نفس تعابير وجه أبى عندما كان يضربنا...إنى أكره نفسى وقتها وكل مرة أقول إنى سأسيطر على أعصابى ولا أفلح
ومرات آخرى أجدنى أتصرف كأمى أذهب لغرفتى وأغلق على الباب وأتمنى أن يختفى كل الناس من الوجود ولا أكلم أحد فيهم أبدًا..حتى أولادى لا أطيقهم ولا أطيق النظر إليهم..
وهنا انهارت "سما" فى البكاء وهى تكمل "أشعر إنى أم سيئة للغاية"
الطبيب: غالبًا الشخص يقلد السلوك الذى تعود أن يراه فى أسرته ﻷنه ينطبع فى ذهنه أن هذه هى الطريقة لمعالجة الغضب أو الحزن أو الألم...العقل غالبًا ما يتعلم بالأمثلة الحية
learning by example
لو كان مثلا والدك عندما يغضب يكسر فى المنزل...أو لو كان والدتك تبكى وتنهار فلربما وجدتنى نفسك تقلدين هذا السلوك أيضًا
سما: عندك حق يا دكتور ابن عمى على سبيل المثال يدخن بشراهة رغم أن والده مات بسرطان الرئة وأنا طول عمرى استعجب كيف يدخن وقد رأى والده يتعذب ويموت بسبب التدخين
الطبيب: ﻷنه سلوك اعتاد أن يراه كثيرًا فأصبح مطبوع فى العقل الباطن كعادة ..معظم البدناء الذى يأتون لعيادتى من عائلات بدينة ..أن الأمر ليس جينات فقط...بل هو موروث من العادات الخاطئة المرتبطة بالأكل انطبع فى ذاكرتهم منذ الطفولة...
قولى لى يا سما هل تتذكرين أى موقف مؤلم فى حياتك تصرفتى فيه بغير الغضب والسباب كوالدك أو الانعزال كأمك؟
سما وقد برقت عيناها: نعم مرة كنت أسمع "عمرو خالد" وكان يتحدث عن ثواب الصبر على المصائب والمحن واللجوء إلى الله عن الازمات..بعدها بيوم أو أكثر -لا أتذكر- توفى جدى فأول شىء عملته عندما سمعت الخبر كان أن صليت ركعتين ودعيت فى السجود أن يربط الله على قلبى...أتعلم يا دكتور كنت أهدأ الناس فى العزاء بل كنت أنا من يواسى عماتى ويقرأ لهم القرآن..كنت مستغربة نفسى جدًا وقتها
الطبيب: وهل هناك موقف آخر؟
سما: نعم أتذكر يوم حصلت على مجموع أقل مما استحقه خرجت من الكلية وظلت أمشى أمشى فى الشارع حتى وجدتنى بالمصادفة أمام الجيم فدخلت ولعبت رياضة لمدة ساعتين كاملتين...وعندما رجعت المنزل كنت أهدى بكثير
الطبيب: إذن لو كنتى كاتبة ملاحظة لنفسك عما تودين أن تفعلينه فى حالة الحزن أو الغضب فماذا ستكتبين؟
سما: اعتقد أنى سأكتب أن اللجوء لله ولعب الرياضة شىء لابد أن أفعله عندما أشعر بالحزن ..ثم ترددت: ولكن يا دكتور هذا صعب جدُا ...لقد حاولت عدة مرات من قبل وما زلت لا أقوم بشىء عند الحزن إلا الغضب أو العزلة
الطبيب: ولكن كما قلتى هناك مرتان لم تفعلى ذلك وربما لو فكرتى لوجدتى مرات أكثر...بمعنى أنه أمكنك فى بعض الأحيان السيطرة على انفعالاتك...كل ما تحتاجينه هوأن تتذكرى ما الذى ينجح فعلًا فى تهدئتك وما الذى يزيد الطين بلة؟
هل تعتقدى أن هناك شىء آخر يمكن أن تفعليه ليعطيك السلام والاطمئنان فى ساعات الحزن؟
سما: ربما أود أن أجرب أن اشترى وردًا...فأنا أحب الورد جدًا أو ربما كان التحدث والفضفضة مع صديقتى "هالة" مفيد أو أن أنظف المنزل....ما رأيك؟
الطبيب: طالما أنك تعتقدين أن هذه الأشياء قد تسعدك فلماذا لا تجربينها...أنتى طبيبة نفسك...ما عليك سوى الجلوس مع نفسك والتفكير كيف تودين أن تتصرف "سما" عند الغضب والحزن
سما وقد ظهر عليها القلق: هل تعتقد يا دكتور أنى سأنجح فى التغير؟
الطبيب: أكيد الموضوع سيأخذ وقتًا...تذكرى ما قلته لك من قبل
small baby steps
أنتى الآن على الأقل تعرفين نفسك بشكل أفضل وتعلمين سبب مشاكللك
ما عليك سوى الثبات والصبر
سما: أنا أعلم أن الرسول قال (إنما الحلم بالتحلم وإنما الصبر بالتصبر)
ولكن يبدو الطريق طويلًا وصعبًا والمشكلة التى أفكر فيها الآن أن بناء على كلام حضرتك من الممكن أن يصبح أولادى مثلى وأن يعانون كما أعانى...لابد أن اتغير من أجلهم
الطبيب: ومن أجل نفسك...أنك تستحقين أن تشعرى بالراحة والسعادة...هذه رحلتك من أجل السعادة..عندما تكتبين ولو صفحة فى المفكرة كافئى نفسك باحضار هدية لها تحبها
ذهبت سما للمنزل وقضت أيام تحاول الهرب من الكتابة والانشغال بأشياء آخرى حتى كان اليوم الذى حدثت لها ضائقة مادية وبدون أن تدرى وجدت نفسها تضرب ابنها البالغ من العمر 3 سنوات ﻷنه كسر لعبة من لعبه
لحد هنا واستوب ...قالت سما لنفسها....إلى متى ستهربين من مواجهة نفسك؟
جلست لتكتب وأخذت تكتب وتكتب..تتذكر فتكتب حتى تعبت من الكتابة وإن كانت شعرت ببعض الراحة ولكن ما زالت تشك أنها سوف تتغير عن حق وتعتقد أنها ستسقط أما أول اختيار.
خرجت لتحضر هدية لنفسها مكافأة على البدء فى الكتابة كما قال لها الطبيب ولكنها فى الطريق تذكرت قوله (ص): "داووا مرضاكم بالصدقة"...وهنا قكرت أن تتبرع بنقود الهدية ولكن وقع بصرها على الخاتم الذهبى الذى تلبسه وتذكرت قوله تعالى "لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون"
ترددت قليلًا ثم دخلت محل مشغولات ذهبية وباعته ثم ذهبت لجميعة خيرية بقرب منزلها وتبرعت بثمنه ...أمسكت الإيصال بفرحة وضمته إلى صدرها ..فكانت هذه أجمل هدية أحضرتها لنفسها.
دينا سعيد
17-8-2012
ملحوظة: تمت المراجعة من الطبيبة النفسية ريهام نجيب