"أنا اتعلمت الأدب فى البلد دى"، دارت هذه العبارة فى بالى أثناء وقوفى على بعد متر من الموظف منتظرة أن ينتهى من عمله على الكمبيوتر لينظر إلى بعدها نظرة معناها أن أتقدم. نعم، ففى هذه البلاد العجيبة لا يوجد شىء أسمه أن تكبس على الموظف بدون أن يسمح لك أن تتقدم ولابد أن يكون هناك مسافة على الأقل متر بين الشخص الذى يخدمه الموظف و بين أول شخص منتظر دوره فى الطابور!!! وهذا طبعا حتى لا تسمع الكلام الدائر بين الموظف والشخص و تزداد المسافة إلى متربن أو أكثر فى البنوك والصيدليات وغيرها من المواقع التى تتطلب خصوصية و سرية !!
من آداب التعامل مع الموظفين أيضا ألا تتقدم أمامه وأنت تتكلم فى الموبايل فلابد أن تنهى حضرتك مكالمتك قبل التقدم وألا رجعك لآخر الصف يا حلو. ومن الأشياء الغربية التى لاحظتها عندما كنت أعمل اشتراك الأتوبيس مما يتطلب اعطاء كارنيه الكلية للموظف ليعمل له سكان أو مسح ضوئى، الشىء العجيب هو وجود لوحة أنه سيتم توقيع غرامة نصف دولار إذا لم يكن الكارنية جاهزاً فى يديك. بمعنى لا تقف يا أخى أمام الموظف ثم تبحث عن المحفظة ثم تخرج الكارنيه منها فهذا يعطله ويعطل الطابور من خلفك وطبعا نصف دولار ليس مبلغا كبيرا ولكنه يدفع كل من يقف فى الطابور ليخرج كارنيهه.
ثقافة الطابور نفسها كانت مسببة لى أزمة نفسية كبيرة، ففى مصر عندما يوجد طابوراً فى محلات السوبر ماركت الكبيرة ككافور أو مترو مثلا تجد شخص معاه عصير يقولك والنبى أنا معاى حاجة فى السريع ويتجاوز الجميع. طبعا هنا لا يوجد هذا الكلام بتاتا وأتذكر أنى حاولت أن أعمل هذا الموقف فى أول شهر من اقامتى فى كندا و طبعا أخدت كلمتين محترمين فى العظم ولكن مدير المحل والشهادة لله أعطى لى شيكولاتة حتى يطيب خاطرى.
المدهش أن الناس هنا يعملون طابور على أى حاجة، مغرمين بالطابور لدرجة أنى فكرت يغيروا علم كندا و يضعوا مكان الشجرة ناس واقفين فى طابور. و ليس شرطا أن يكون هناك شخصاً ما يقفون أمامه لكى يحترموا أنفسهم ويعملوا طابور، ففى مرة دخلت أحد حمامات الكلية لأجد دورات المياه الثلاثة مشغولة فوقفت انتظر، فدخلت واحدة ونظرت فوجدت دورات المياه مشغولة أيضا فوقفت ورائى فيما يشبه الطابور ثم جاءت آخرى فوقفت ورائها. كده على طول من غير لا سحر ولا شعوذة، ألم أقل لكم الطابور يجرى فى عروقهم مجرى الدم؟
من الأشياء الآخرى التى لابد أن سمع الكثيرون عنها هى احترام الوقت، ولكن من سمع غير من رأى. فمثلا مواعيد الأتوبيسات عندنا بالدقيقة 3 و17 دقيقة فالوقت هنا لا يتم جبره وتقريبه لأقرب وحدة عشرية ليصبح 3 و20 دقيقة أو 3 ونصف أو حتى 4. لا يوجد هنا أى شىء أسمه جبر الوقت. وقت الراحة فى منتصف المحاضرة غالبا ما يكون أما 3 دقائق أو 8 دقائق مما كاد يجعل برج من نافوخى يطير. لماذا ليس 5 أو 10 دقائق؟ حتى عرفت السر وهو أن الراحة الفعلية 3 دقائق ثم حتى ندخل القاعة و نقعد ونطلع حاجاتنا هذا يطلب دقيقتين على الأكثر مما يجعل الراحة الكلية 5 دقائق وعجبى.
الغريب أن ثقافة احترام الوقت تنتقل إلى الناس بشكل عدوانى مخيف. ففى مرة فوجئت بأحد الزملاء على الفيس بوك متغاظ جدا وهيفرقع يا والداه من الغيظ لماذا؟ أصل البيه مكتبه فى الدور السابع وأخذ الأسانسير لينزل للدور الأرضى ولكن الأسانسير توقف فى الدور الخامس ليركبه أحد الأشخاص لينزل به إلى الدور الرابع فقط . وكان الأخ متنرفز ويتساءل عما يدفع أحد الأشخاص لطلب الأسانسير لينزل دورا واحدا فقط بدلا من أن ينزل على قدمه وبذلك يتسبب فى تعطيل كل من فى الأساسنير وأهدار الطاقةّّّ!!! أنا طبعا قلت على الواد ده مجنون ولكن فوجئت بكل التعليقات من الأخوة الزملاء تستنكر هذا الحدث المشين و تشجب وتدين هذا الجانى الذى تسبب باستهتراره فى اهدار دقيقتين على الأكثر من وقت زميلهم .. ياللهول.
أتعلمون فى أول مرة خرجت فيها من البيت حذرنى كل الناس ليس من الثلج أو البرد أو اللصوص، بل حذرونى من شىء عجيب قالوا لى لابد أن يكون معاكى أجرة الأتوبيس فكة ...آه والله فأجرة الأتوبيس 2 دولار ونصف لابد أن تكون جاهزة معاكى لأن السائق لن يفك لكى ويعطيكى الباقى، لماذا؟ لأن فى ذلك تعطيل له هو يعنى هيفك فلوس ولا هيسوق؟؟ وكنت أسأل نفسى فى كل مرة طيب من ليس معه فكة بيعمل ايه؟ قالوا لى لا يركب الأتوبيس النظام نظام. قلت لهم ألا يجوز أن يركب أحدهم ثم يكتشف أنه ليس معه فكة؟ قالوا لى عندها ينزل من الأتوبيس فى أول محطة اذا كان السائق متفاهما أو يدفع غرامة وربما عطف عليه أحد الركاب ودفع له الأجرة لكن السائق ملوش دعوة لن يفك له مهما حدث...النظام نظام
وحتى لا تسرح بخيالك فالحياة فى كندا ليست وردية تماما، فالأتوبيسات تتأخر والناس أيضا تتأخر عن مواعيدها ولكن هناك فرق بين تأخر وتأخر، فمثلا اذا كنت حاجز ميعاد مع دكتور وتأخرت أكثر من ربع ساعة يتم الغاء الميعاد وتوقيع غرامة قدرها 25 دولار على حضرتك فى المرة الأولى و تتضاعف الغرامة فى المرة الثانية وهكذا. اذن فالحد الأقصى المسموح به هو 15 دقيقة فى معظم الأماكن مراعاة لطبيعة البشر وحدوث طوارىء وخلافه ولكن فوق 15 دقيقة لابد أن تدفع ثمن تعطيل غيرك حتى ولو لم يكن العطل بيديك. وإذا كنت تريد الغاء الموعد بدون أن تدفع غرامة فلابد أن يكون هذا قبل الموعد ب24 ساعة على الأقل حتى تعطى فرصة لغيرك فى حجز هذا الموعد...مش عاجبك؟ هو ده النظام take it Or leave it.
أكيد حضرتك نفسك تسأل طيب المصريين عاملين ايه فى الجو ده؟ أحب أطمنك أن المصريين والحمد لله غالبا ما يلتزمون بالقواعد ويقفون فى الطوابير ويجهزون الفكة قبل ركوب الأتوبيس هذا طبعا بعد أن يعبروا مرحلة الصدمة الحضارية و الثقافية. وطبعا يفعلون هذا لأنهم ببساطة لن يكونوا الهمج الوحيدين فى البلاد ولكن هناك منهم من يلتزم اقتناعا ومن يلتزم إجبارا. وهذا وإن دل على شىء فإنه يدل على أن هذه الثقافة يمكن تطبيقها فى مصر ولا تحتاج لناس من الفضاء مثلا. وبذلك يوجد أمل أن تكون مصر دولة منظمة يُحترم فيها الوقت و العمل ولكن الموضوع كله موضوع سيستم أى نظام يمشى على رقبة الجميع بلا تفرقة.
تلتقون فى الحلقة القادمة مع ثقافة احترام الموارد وعدم اهدار سنت فيما لا يفيد، على فكرة النقود هنا لا يتم جبرها أيضا
ألم أقل لكم "الغربة تهذيب وإصلاح"؟