بقلم دينا سعيد - 26 يناير 2011
"ربنا معاكم يا حبيبى"
قالتها له زوجته وهو يستعد لمغاردة المنزل بهندامه العسكرى ليبدأ يوم آخر من العمل الشاق
أجابها
"ربنا ينتقم من العيال دول ...شوية عيال....هيودوا البلد فى داهية"
تجاوز بوابة المنزل وكالعادة وقف له البواب احترامًا قائلًا
"صباح الخير يا باشا ...ربنا ينصركم على ولاد الهرمة دول
ابتسم دون أن يعلق وركب سيارته وفى الطريق دار أمامه شريط حياته
كان من المتفوقين فى الثانوية العامة ولكنه فضل دخول كلية الشرطة ليحقق حلم الطفولة أن يصبح ظابطًا
تذكر كيف أثرت فيه روايات رجل مستحيل - أدهم صبرى- التى قرأها تقريبًا كل أبناء جيله
هذا البطل العربى المغوار الذى كان يدافع عن حمى مصر والعالم العربى
لطالما حارب الصهاينة والمافيا وتجار المخدرات والماس والسلاح
كان يتمنى أن يصبح مثله يومًا أو ربما قريب الشبه منه
لذا اهتم منذ صغره بالأكل الصحى والمواظبة على التمرينات الرياضية
تعلم شتى رياضات الدفاع عن النفس قبل أن يدخل كلية الشرطة
ثم تحقق الحلم وجاء من مدينته الصغيرة ليدخل كلية الشرطة فى قاهرة المعز
فى البداية لم يفهم لماذا يصر أساتذته فى الكلية على فكرة هيبة ظابط الشرطة
وعاهد نفسه أن يكون كما هو فى وسط أصدقائه وعائلته لن يعاملهم على أنه شخص من كوكب آخر
لذا بادر بزيارة زملائه فى الحرم الجامعى فى أول أجازة وهناك وجد الكل يناديه ب"يا باشا
تضايق قليلًا ثم اعتاد الأمر كل من يعرفهم ما عدا والديه يقولون له "طارق باشا" وهو لم يمض على دخوله الكلية أكثر من شهرين
ولم يكن هذا التغير الوحيد: فقد كانت البنات يعاملونه بشكل مختلف
كلهن يسعن وراءه ...بما فيهم ابنه عمه التى كان يحاول التودد إليها وكانت دائمًا تصده
والمدهش أن كان منهن بنات عائلات غنية جدًا لم يكن يومًا يحلم أن يسلم على واحدة فيهن
وكان بعضهن على استعداد لتقديم أى نوع من التنازل
استهواه الأمر ..دخل فى عدة علاقات بعضها مشروع وبعضها غير مشروع
كانت كل صديقة من صديقاته تتباهي أنها مصاحبة طالب فى كلية الشرطة
يبدو أن للبدلة رونق لم يكن يعلمه
ولكن بعد فترة ملهن جميعًا وقرر قطع علاقاته النسائية ليتفرغ لمستقبله
وخاصة عندما قابل ابنة أحد أكبر رجال الأعمال والسلطة فى مصر
تخرج من الكلية وكان من العشر الأوائل فى دفعته
مما رشحه للعمل فى أمن الدولة
وعندها بدأ فصل آخر من حياته
كان العمل شاق لدرجة قاسية...مظاهرات وتقارير أمنية طوال الوقت
وكذلك زادت أعباؤه الأسرية لحد كبير
أهله وأهل زوجته وأصدقاؤه وأصدقاء زوجته وجيرانه وحتى جيران أصدقاؤه...
باختصار كل من يعرفه أو يعرف أحد يعرفه
الكل يطلب منه خدمات ووساطات
كان يبدو مثل كبير العائلة الذى يلجأ إليه الجميع
وكان يساعدهم بلا تردد
ولكن أخلاقه كانت تأبى أن يتوسط لأحد ليحصل على حق ليس حقه
ولكنه كان فقط يساعدهم على نيل حقوقهم
كانت هناك أشياء لا يستطيع أن يقول لها لا
مثل أخت صديقته التى صدمت أحد الأشخاص بسيارتها بدون قصد
كان لابد أن يتدخل ليتم خروجها من النيابة على الأقل بضمان
أنها بنت رقيقة للغاية وسوف تصاب بانهيار عصبى لو تم بهتدلتها فى القسم
كيف يستطيع ألا يساعدها؟
أيضًا أخيه الذى عاد من الخارج بهدايا له ولأسرته
لو لم يتدخل لدى الجمارك سوف يغرمونه الكثير من الأموال
وهذه أشياء للاستعمال الشخصى...ولكنهم لا يفهمون إلا بالواسطة أو الرشوة
وهكذا كل يوم تليفون "طارق باشا الحق ابنى الشرطة ماسكاه تحرى"
"طارق باشا الحق معرفش مين حصل له إيه"
وكأنه تحول لوزارة للشئون الاجتماعية
ولكن فى المقابل كان يحصل على حب واحترام الجميع
كانت الهدايا تتدفق عليه وعلى زوجته وابنته فى كل مناسبة وأحيانًا بلا مناسبة
وفجأة فرمل السيارة...
أيكونون يشترون خدماته بهذه الهدايا؟
لااااااااااا هو ليس مرتشى ولن يكون أبدًا
ثم خطرت بباله خاطرة
أنه منذ دخوله كلية الشرطة إلى الآن لم تقم مشاجرة واحدة بينه وبين أى من أصحابه الغير ظباط
أيكونون يرهبونه لهذا الحد؟
أيكون كل هذا الحب والاحترام زيف؟
فقط من أجل مصالحهم
كم ود لو كان هناك فى مصر نظام حكومى محترم
ليعطى كل ذى حق حقه
عندها لن يلجأ إليه أحد ولن يضطر أن يتوسط لهذا أو ذاك
عندها ربما عامله الناس على أنه طارق
وليس طارق باشا
كم يكره هذا اللقب الذى التصق باسمه
لماذا لا يكون طارق فقط؟
لماذا لا يتودد إليه ألا من يحبه هو فقط لنفسه؟
قطع حبل أفكاره رنين هاتفه الخلوى
وجد أحد زملائه يصرخ
"أنت فين يا طارق؟
الناس لا تتطالب بزيادة الأجور أو تخفيض الأسعار كما اعتقدنا
المظاهرات ولعت يا باشا والناس تقول
الشعب يريد أن يسقط النظام"
لمعت عينه وقاد السيارة بأقصى سرعة
حتى وصل إلى ميدان التحرير
هرول إليه زملاؤه ينقلون له الأخبار
ولكنه لم يستمع لأى منهم
كان هتاف الجماهير الغفيرة يصم أذنيه
"الشعب يريد إسقاط النظام
"الشعب يريد إسقاط النظام
"الشعب يريد إسقاط النظام
لم يكن الأمر يحتاج لتفكير...فى هدوء نزع الشارة العسكرية على كتفى بذلته العسكرية
وانضم للجماهير
صفق الناس وهللوا وقالوا الله أكبر
ثم حملوه على الأعناق ليهتف معهم
"الشعب يريد إسقاط النظام