قالها أبى وهو يفتح الباب لى ولأختى ونحن عائدتان من الحضانة...لا أتذكر شيئًا من مراحل حمل أمى ..ولا أتذكر أنهم أخبرونى قبلها أنه سيٌولد لى أخ...ربما فعلوا ولكنى لم استوعب....كل ما أتذكره هو أبى وهو يأخذ بأيدينا وأنا وأختى بمرايل الحضانة البيضاء إلى المستشفى لنشاهد أمى والبيبى
ورأيته
كان وجه أبيضًا مستديرًا فى اللفة ....قالت أحدى خالتى "ده زى البدر" ...قالوا أنه وزنه كان كبيرًا وأنه أتعب أمى كثيرًا وأنها كادت تموت..هالنى خاطر أن تموت أمى...نظرت إلى الطفل الصغير وأنا لا أفهم كيف لمن بهذه البراءة أن يتسبب فى وفاة أمى....أتذكر أحدى السيدات الكبيرات فى عائلتى وهى تسارع إلى تغطيته كلما دخل أى شخص إلى الغرفة "يا ختى غطيه ..أحسن يتحسد"...لم يدر ببالى أن هذا المخلوق الضعيف سيتحول فى خلال سنتين إلى وحش يكسر كل عرائسى وبرمى مكعباتى من الشباك بل أنه سيصل أن يتطاول عليا أنا شخصيًا ويضربى...وكلما هممت أن أرد له الضربة ..نهرتى أمى وأبى ﻷنه ما زال صغيرًا....لم أفهم ما هذا المنطق غير العادل؟!!
ثم جاء اليوم المنشود، ارتدى أخى ملابس الحضانة البيضاء وأخذنته مع أبى وأختى إلى هناك وما أن هممنا بتركه حتى انفجر فى البكاء وتمسك بنا...جزعت بشدة ...خاصة أنه ظل يبكى لساعات طويلة...كل يوم يبكى عندما نتركه وأنا أحزن لبكائه...أثر فى الموضوع لدرجة أنى خفت أن يتكرر نفس الأمر بعد 6 سنوات عندما هم أخى الأصغر بدخول الحضانة لذا قمت بإعداد برنامج تهيئة له وظلت أحكى له عن جمال الحضانة وأخبره أننا سنتركه هناك ولكننا سنعود إليه وسيكون هناك ولاد وحشيين يبكون فلا يجب أن يتأثر لبكائهم...وكم كنت سعيدة عندما لم يبك واعتقدت أننى نجحت فى أن أجنبه الآلام التى مر بها سابقاه.
كم تمر الحياة سريعًا...لا أعلم لماذا تبدو ذاكرتى بيضاء ولولا الصور التى لدينا فى المنزل لما تذكرت أننا كنا نذهب للملاهى والمصايف ..لا يبدو لكل هذه الأحداث نصيبًا من ذاكرتى الانتقائية التى يبدو أنها تختار أن تبقى بها فقط الأحداث التى سببت لى ألمًا أو جزعًا أو حيرة أو مفاجأة...مثلًا أتذكر يوم سقط من على الحصان وأتذكر أمى وهى تضع عشرة قروش على جبينه وتربطه وإلى الآن لم أفهم كيف تعالج العشرة قروش البطحة التى فى جبين الإنسان...أتذكر يوم كنا فى المزرعة واختاره الكلب من بيينا ليعضه وتهرول به أمى إلى المستشفى ليأخذ حقنة فى بطنه أما الكلب فقد تكفل به أبى بطلقة من مسدسه...حزنت لتألم أخى ورُوعت لمقتل الكلب...حاولت أمى إقناعى أنه مسعور ولو تركه أبى لعض آخرين وتسبب لهم بالأذى...لم أفهم..كنت متخيلة أنه كان يمكن شفاء الكلب وأن من الحرام قتله، أخذ الأمر منى ما يقرب من عشرون عامًا لاكتشف أن من بنى آدم أنفسهم من يصل لدرجة السُعار...والحل الوحيد لتخليص المجتمع من شرورهم هو طريقة أبى...
أتذكره يوم نتيجة الثانوية العامة وقد جعلته نصف درجة يدخل جامعة عين شمس بدلًا من القاهرة ولكنى لا أتذكر متى تعلم قيادة السيارات ولكن من وقتها وأصبح موصلاتى العائلة وكنت دائمًا ما أدعابه "انتى جاية تشتغلى إيه؟"...ما زلت أتذكر يوم أيقظنى من النوم ﻷجده يحمل كلبا كبيرًا من الفرو الأصفر..كان هدية عيد ميلادى...اسميته "جعلص" ..ومن وقتها أصبح القاسم المشترك فى صور العائلة التى تلتقط فى المنزل
أحضر يومًا حوضًا من الأسماك للمنزل...كان يعتنى به كثيرًا...من صغره وهو يحب الحيوانات...فى يوم تشاجرنا معه أنا وأختى..جلس أمامه حزينًا نحو الساعة ...ثم قام ليعتذر لنا ويصالحنا...كانت ومازالت عنده العائلة أهم شىء.....كم من مرة كان يقدمها على نفسه...ربما اكتشفت الآن سبب بكائه كلما تركناه فى الحضانة...لم يكن للأمر علاقة بالتهيئة النفسية ...بل هى طبيعة شخصية
وسافرت...وفى كل مرة أزور مصر كان هو آخر وجه أراه مودعًا وأول وجه أراه مستقِبلًا....ألم أقل لكم "سواقة"؟! والآن يقولون أنه بالأمس كان "عريسًا"...يقولون أنه كان وسيمًا فى البدلة الرمادية والقميص الروز...يقولون ويقولون
كم كنت أتمنى أن أراه ..كنت أرجو أن أضيف له صورة فى ذاكرتى.. صورة بجواره صوره فى اللفة والحضانة والمزرعة وهو يحمل "جعلص" ...لا لا أريدها صورة ديجتال بلا روح يرسلونها لى بالإيميل...أريدها صورة حية حقيقة تحتفظ بها ذاكرتى للأبد
كم كنت أريد أن أحضنه وأقبله وأقل له أنى أحبه منذ أن رأيته بدرًا مستديرًا فى اللفة وكنت وكنت
مئات الأمانى والأفكار...يحيط بها السؤال الوجودى المعتاد...
"ما هو الثمن الذى تدفعه بغربتك؟"
دينا سعيد
19-7-2012
جميلة.. وأخرها واقعي.. ومؤلم لمن يعرفون غربة الأهل
ReplyDeleteربنا يجمعكم تاني على خير :)