جائتنى اليوم فتاة مسلمة...وأخبرتنى أنها قلقة على صديقة لها تدرس دراسات عليا وتبدو مكتئبة للغاية وسبب قلقها الأساسى أن قريب لها كان طالب دكتوراة فى جامعة مرموقة بكندا قد انتحر فجأة بسبب إحساسه بالفشل وهى تخاف أن تفعل صديقتها المثل
أخبرتنى أن قريبها هذا كانت معظم العائلة تعتبره نابغة وأنهم قد صعقوا عندما علموا بانتحاره وأنه يعتبر نفسه فاشل خاصة وأنه لم يكن هناك سوى شهور قليلة على مناقشته للرسالة وبعد أن توفى -رحمه الله- تم نشر بحثين له كان قد قدمهما قبل وفاته...ولم يفهم أحد من أهله حتى الآن لماذا كان يشعر بالفشل؟ وهى تشعر أن صديقتها عندها نفس الأحاسيس ولا تدرى كيف تنقذها
أولًا: قد أن تصدروا أى أحكام دينية على الشخص المنتحر وتقولون أنه فى النار أو أى شىء آخر..أحب أن أنوه أن الله تعالى وحده هو الذى يعلم السرائر ولا يدرى أحد ما الذى كان يمر به هذا الشخص من معاناة نفسية قد يمر أى منا بها فى أى لحظة
وقد يكون تاب قد وفاته بلحظات وتقبل الله منه التوبة
وﻷن الله سبحانه وتعالى عليم رحيم حكيم فهو وحده الذى له سلطة محاسبتنا وإن كان المنتحر كافر قطعًا كما يقول البعض..إذن فلماذا نصلى عليه؟
ثانيًا:
دعونا نتكلم عن طلبة الدرسات العليا ولماذا هم أكثر الناس عرضة للإصابة بالاكتئاب والإحباط ويتكلمون دائمًا عن الإحساس بالفشل والعجز حتى وإن كانوا يدرسون فى أفضل الجامعات ولهم أبحاث منشورة فى أفضل المنشورات العلمية؟
الموضوع هو ببساطة المجموعة التى تقارن نفسك بها...عندما كان هولاء الطلبة فى تعليمهم الجامعى أو المدرسى غالبًا كانوا الأوائل على صفهم ..وكانوا دائمًا ما يحصلون على أعلى الدرجات ..وكان الكل ينظر إليهم على أنهم قدوة ومثل أعلى
لم يحتاج أحد أن يقول لهم ذاكروا هذا أو بطلوا لعب...بل ربما كان الناس يقولون لهم ارحموا نفسكم من المذاكرة شوية
ولكن عندما ذهبوا للدراسات العليا وجدوا الأمر مختلف...ﻷن المجموعة التى يقارنون نفسهم بها الآن تحوى الأوائل على الجامعات من كل أنحاء العالم.. وطالما كانت الجامعة أفضل عالميًا كلما كان الطلاب الذين يدرسون فيها دراسات عليا أشطر
هنا تحدث الصدمة
إحساس الشخص بأنه لم يعد الأول ولا الأفضل بل هو متوسط وأحيانًا أقل من المتوسط
وهنا يشعر أن فى أعماقه بالفشل
الذى يزداد كلما أرسل بحثًا علميًا لجريدة أو مؤتمر وتم رفضه
هذا الشخص لم يتعود على الرفض طوال عمره..لم يتعود أن يقول أحد له أن العمل الذى أنهك نفسه فيه لا يصلح
أتذكر أن مشرفى فى الماجستير كان يقول لى كلما تم رفض بحث أنها خبرة جيدة أن تتعودى على الرفض
ولكنه نسى أن يقول لى أنى لابد أن استمتع بطعم النجاح عندما يحدث أخيرًا بعد 4 أو 5 مرات من الرفض المتكرر
بصراحة كنت وقتها أشعر أن البحث قد تم قبوله بالصدفة وأنه لا يستحق النشر أصلا ..وهو شعور طبيعى بعد كل هذا الإخفاق
أضف إلى هذا شعورك العظيم أن رسالتك ليس لها معنى أو فائدة وأن كل ما يحدث حولك هو مسرحية سخيفة وأن
Science is crap
فى معظم الأحيان وليس كلها للأمانة
Science is crap
فى معظم الأحيان وليس كلها للأمانة
بجانب الأبحاث العلمية هناك المنح والجوائز المختلفة التى يقدم عليها طالب الدراسات العليا باستمرار سواء على مستوى جامعته أو الولاية التى فيها الجامعة أو على مستوى الدولة كلها...يقولون لنا أن التقديم فى هذه المنح خبرة جيدة للبحاث ولكن فى العادة نسبة الرفض تكون كبيرة جدًا ...وهنا عليك أن تتعامل مرة آخرى مع إنك متوسط أو أقل من المتوسط
وهناك أيضًا التدريس إذا كان طالب الدراسات العليا يقوم بالتدريس..وقد يطلع لك طالب شاطر يسألك سؤال لا تعرف إجابته أو يصحح لك معلومة خاطئة ...ثم فى نهاية الترم يقيمك الطلبة وقد تفاجىء بأن رئيس القسم يطلبك ﻷن تقييمك أقل من المتوسط وهنا عليك أن تتعامل مع الفشل مرة آخرى وأن تحاول أن تتعلم من أخطائك فى المرة القادمة
أما رسالتك نفسها ففى كثير من الأحيان تكتشف أن ما قضيت فيه سنة كاملة قد سبقك شخص ونشره وعليه عليك أن تجد شيئًا آخر لتبحث فيه وكثيرًا ما تكتشف أن هناك أخطاء فى التجربة أو المنهج وعليك أن تعيد كل شىء من الأول ..ولكن فى نفس الوقت عليك أن تنتهى من رسالتك فى وقت معين حتى لا ترفدك الجامعة
وطبعًا كلما كنت باحث شاطر كلما زاددت توقعاتك وتوقعات مشرفيك من رسالتك
فقد تجد طالب دكتوراة مصنف على أنه أفضل الطلاب فى كندا يحلم أن يحصل يومًا على جائزة نوبل لذا فتعريف الفشل بالنسبة له مختلف تمامًا عن تعريفه بالنسبة لطالب دكتوراة على قده مثلى أو عن طالب دكتوراة فى مصر
أضف إلى ذلك إنه قد يكون مشرفك من النوع الذى لا يقدر الفروق الفردية والذى يقف بين طلبته ليعقد مقارنات..فلان نشر وعمل وسوى ...لابد أن تكونوا مثله...بالطبع هو يعتقد أنه هكذا يحمسك ..ولكنه لا يدرى أنك أصلا مش ناقص حد يشعرك أنك أقل من غيرك ﻷن عقلك يترجمها أنك فاشل
الحمد لله إن مشرفى ليس من هذا النوع ولكن أعرف ناس كده وألعن من كده ألف مرة)
لدرجة أنى أشعر أن هناك بعض المشرفين عندهم نوع من السادية والتلذذ بتعذيب ضحاياهم من الطلاب وقد يسعدون إذا انتحر أحد طلبهم (قصة حقيقة))
لدرجة أنى أشعر أن هناك بعض المشرفين عندهم نوع من السادية والتلذذ بتعذيب ضحاياهم من الطلاب وقد يسعدون إذا انتحر أحد طلبهم (قصة حقيقة))
أما المشكلة الكبرى التى تواجه طالب الدرسات العليا وبالذات الدكتوراة أنه يرى زملائه فى الجامعة الذى سلكوا طريق العمل فى الشركات وقد أصبحوا خلال هذه العشر سنوات
team leaders and project managers
وأحيانًا أصحاب شركات رغم أنهم كانوا جايبن مقبول فى الجامعة
(طبعًا هو كله رزق)
وأحيانًا أصحاب شركات رغم أنهم كانوا جايبن مقبول فى الجامعة
(طبعًا هو كله رزق)
لكنه ما زال يدرس ..وعادة يأخذ مرتب بالكاد يكفيه
ولو فكر أن يترك الدراسات العليا بعد كل هذا المشوار فسيكون بلا أى خبرة عملية
وقد تفضل الشركات عليه خريج جديد مرتبه قليل
من الآخر يشعر أنه رقص على السلم فلم ينجح فى دراسته "حسب تعريفه للنجاح"
وفى نفس الوقت لم يعمل فى شركة ويريح باله من كل هذا القرف
يشعر أنه
stuck
وأنه مستمر فقط ﻷنه طريق وسلكه ولا يوجد أى منفذ للخروج منه سوى أن يكمل ما بدأه ...وفى وسط كل هذا ينسى استمتاعه بعمله وبحثه الذى ربما كان الشىء الأساسى الذى جعله يدخل هذه الكلية ويتفوق فيها
إذن فما الحل؟
فى كل الأحوال لا تخجل من طلب المساعدة ..فى كل جامعة (فى الغرب) هناك مستشارون نفسيون سيخبرونك أنك لست الوحيد
الذى يشعر بذلك وأن نسبة كبيرة من طلبة الدراسات العليا تشعر بالظبط بما تحس به
سيعطوك كتبًا وأفكارًا ويساعدونك لتبلغ هدفك بالطريقة المناسبة لك
الحل أن تواجه الحقائق ...أنت لست فاشل أيا كان تعريفك للفشل
ولكنك لست فاشل
أنت لست هذا البحث أو المنحة أو حتى الرسالة
حياتك ونظرتك لنفسك لا ترتبط باى حال من الأحوال ببحثك أو مشرفك أو طلابك أو زملائك فى العمل أو رسالتك
تقييمك لنفسك وكيف تراها لا تستمده من هولاء ولا تستمده حتى من عائلتك التى تراك نجم عال فى السماء
لذلك بدلًا من أن تهرب مما تعتقده فشلًا عليك أن تبحث عن نفسك
وعندما تجدها ستعرف ما عليك ان تفعله
إذا كان أن تترك الدراسات العليا فافعل
إن كان أن تستمر فافعل
إن كان أن تغير مجالك كله فافعل
إن كان أن تغيره بعد الدكتوراة فافعل
فى كل الأحوال أنت من يعيش حياتك وليس الآخرين
ولكن أرجوك ألا تفعل أى من هذا ﻷنك فقط تعتقد أنك فاشل "بحسب تعريفك للفشل
ولكن أفعله ﻷنك تريده من داخلك
وبالنسبة لقصة الخوف على صديق لك أن يكون يفكر فى الانتحار فسأخبركم بما تفعله لاحقًا إن شاء الله ولكن حتى لا أنسى فمبدئيًا يجب أن تسأل
فلان هو أنت أحيانُا بتفكر تنهى حياتك؟
ويجب أن تهيئ نفسك أن الإجابة قد تكون بنعم حتى لو كان الشخص متدين جدًا
وصدقنى أن تسأل هذا السؤال حتى لو كان سيغضب صديقك أفضل مائة مرة أن تلوم نفسك أنك لم تسأله ولكن بعد فوات الأوان
ملحوظة1: إذا كان طالب الدكتوراة رجلًا فسيجد مشكلة أكبر فى تقبل الهزيمة والاعتراف بوجود مشكلة واللجوء للمساعدة مما يجعل الأمر أصعب بكثير.
ملحوظة 2: تبلغ نسبة المنتحرين من الرجال 84% من إجمالى المنتحرين
طبقًا لهذه الدراسة
http://www.sciencedirect.com/science/article/pii/S1353113104000598
ولهذا أسباب عدة سنتكلم عنها فيما بعد
دينا سعيد
Mental Health First Aider and Community Helper
PhD Student, Computer Science Dept, University of Calgary, Canada
PhD Student, Computer Science Dept, University of Calgary, Canada
29-10-2012